أول من أدخل عبادة الأصنام

أول من أدخل عبادة الأصنام

تُعد عبادة الأصنام من الظواهر الدينية التي شكلت منعطفاً هاماً في التاريخ العقدي للبشرية، حيث مثلت انحرافاً جذرياً عن التوحيد الخالص الذي دعت إليه رسالات الأنبياء الأولى. وعلى الرغم من أن الأصل في الخلق هو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن تطور الحياة الاجتماعية والثقافية، إلى جانب التأثيرات النفسية والتقليدية، أفضى إلى نشوء مظاهر الشرك وعبادة المجسدات. ويُعزى أول من أدخل عبادة الأصنام إلى شخصية تاريخية كان لها أثر بالغ في تحريف العقيدة التوحيدية، ألا وهو “عمرو بن لحي الخزاعي”، الذي يُعد في التراث الإسلامي المؤسس الفعلي لعبادة الأصنام في جزيرة العرب.

الخلفية التاريخية والبيئية لعبادة الأصنام

في البداية، كان الإنسان فطريًا ميالًا إلى التوحيد، وقد بعث الله الأنبياء لتأكيد هذه الحقيقة العقدية وتثبيتها في نفوس الناس. لكن بمرور الوقت، ومع طول العهد بين الرسالات، بدأ الانحراف العقدي يظهر في المجتمعات البشرية، وكانت عبادة الأصنام أحد أبرز أشكال هذا الانحراف.

لقد ارتبطت عبادة الأصنام بثقافات متعددة عبر العصور، فظهرت في الحضارات السومرية والفرعونية واليونانية والرومانية والهندية وغيرها. لكن في سياق الجزيرة العربية، كانت البيئة قبلية، قائمة على الولاءات العشائرية، مما أتاح المجال لظهور الرموز المادية التي تمثل القبائل أو تتوسل بها، حتى تحولت مع الزمن إلى آلهة تُعبد من دون الله.

من هو عمرو بن لحي؟

اسمه الكامل: عمرو بن لُحَيّ بن قَمعة بن خِنْدف الخزاعي، وكان من سادة قبيلة خزاعة، وقد تولّى زعامة مكة بعد جُرهُم، وكان له مكانة مرموقة بين العرب لما امتاز به من كرم وسخاء وهيبة، مما جعل العرب تتأثر بأفعاله وتتبعه في قراراته. وتشير المصادر إلى أن عمرو بن لحي هو أول من غيّر دين إبراهيم عليه السلام في مكة، وأدخل عبادة الأصنام إلى الحجاز.

روى البخاري في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال:

“رأيتُ عمرو بن لُحي يَجرّ قُصْبَه في النار، وكان أول من سيّب السّوائب، وأدخل الأصنام”.

وهذا الحديث يؤكد بشكل قطعي أن عمرو بن لحي كان الشخصية المحورية التي غيرت مسار التوحيد في جزيرة العرب نحو الشرك.

كيف أدخل عبادة الأصنام؟

تذكر كتب السيرة والآثار أن عمرو بن لحي سافر إلى الشام في رحلة تجارية أو دينية، وهناك رأى أهل الشام يعبدون الأصنام، فتأثر بمظاهرهم الدينية، وسألهم عن سبب عبادتهم لها، فأخبروه أنهم يتخذونها وسائط تقربهم إلى الله. فاقتنع بأقوالهم، وأعجب بمظاهر العبادة، فاستحسنها وقرر أن ينقل هذه الممارسة إلى الحجاز.

فأخذ معه صنمًا يُدعى “هُبَل”، وكان صنمًا عظيمًا له مكانة كبيرة عند أهل الشام، ونصبه في جوف الكعبة، وأمر الناس بعبادته. ولم يكتفِ بذلك، بل استورد أصنامًا أخرى، ووزعها على القبائل العربية، فأصبح لكل قبيلة صنمها الخاص الذي تقدسه وتعبده، مما رسّخ الشرك بين العرب لعقود طويلة.

أبرز الأصنام التي أدخلها عمرو بن لحي

فيما يلي جدول يوضح أبرز الأصنام التي دخلت الجزيرة العربية بفضل نشاط عمرو بن لحي وأتباعه:

التدرج في التحول من التوحيد إلى عبادة الأصنام

لم يتم التحول إلى عبادة الأصنام بشكل فجائي، بل كان تدرجًا مدروسًا يبدأ بتقديس الأشخاص الصالحين، ثم بناء تماثيلهم كوسيلة لتذكرهم، ثم جعل هذه التماثيل رموزًا مقدسة، ثم تطورت إلى طقوس دينية، ثم إلى عبادة صريحة. وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم هذا الانحراف العقائدي حين قال عن قوم نوح:

“وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً” (نوح: 23).

وقد بيّن المفسرون أن هذه الأسماء كانت لأناس صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن يصنعوا تماثيلهم ليذكروهم، ثم مع مرور الوقت، صارت تُعبد من دون الله.

التأثير الواسع لخطوة عمرو بن لحي

كان لتحرك عمرو بن لحي تأثيرًا كبيرًا على البنية الدينية للعرب، حيث انقسمت الجزيرة إلى أقاليم تعبد أصنامًا مختلفة، وظهر نوع من “التعدد الوثني”، جعل كل قبيلة تشعر بتفردها الديني. كما أن فكرة أن الأصنام تقربهم إلى الله كانت من أكثر المعتقدات شيوعًا، ويُعبر عنها القرآن الكريم بقوله:

“ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى” (الزمر: 3).

ولم تكن عبادة الأصنام مقتصرة على السجود لها فحسب، بل تعددت مظاهرها، فكانت تشمل النذور، والقرابين، والطواف، والاستسقاء، وحتى استشارة الأصنام في القرارات الكبرى. كما كانوا يستخدمون “الأزلام” وهي سهام يختارون بها قراراتهم عند الأصنام.

مكانة هُبَل كرمز مركزي

من بين كل الأصنام، كانت لهُبَل مكانة مركزية، وقد نُصب في الكعبة نفسها، وكان يُنظر إليه باعتباره الصنم الأكبر. وكان له دور في الحروب والقرارات المصيرية، حتى أن قريشاً كانت تستقسم عنده في معاركها. وتشير الروايات إلى أن يوم أحد، صاح أبو سفيان بعد المعركة قائلاً: “أعلُ هُبَل”، في تعبير عن النصر منسوب إلى هذا الصنم.

موقف الإسلام من عمرو بن لحي وعبادة الأصنام

عند بزوغ فجر الإسلام، واجه النبي محمد ﷺ بيئة مشبعة بالشرك وعبادة الأصنام، وكان هدم هذا الموروث العقدي من أكبر التحديات. وكان موقف الإسلام حاسمًا تجاه الأصنام، إذ جاءت العقيدة الإسلامية بالتوحيد الخالص ونبذ الشرك.

وقد ذُكر عمرو بن لحي كرمز للضلال والانحراف في التراث النبوي، وجاءت الإشارة إليه كأحد أقطاب الكفر الذين سنّوا سننًا سيئة ظلت آثارها حتى مبعث النبي ﷺ.

النهاية الرمزية لعبادة الأصنام

في فتح مكة، تجلت نهاية الأصنام كقوة دينية مؤثرة، فقد دخل النبي ﷺ الكعبة وأمر بهدم الأصنام التي بلغ عددها 360 صنمًا، وقام بتحطيمها بيده، وهو يتلو قول الله:

“وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا” (الإسراء: 81).

وكان هذا الإعلان إيذانًا بعودة التوحيد الخالص إلى مكة، وتطهير البيت الحرام من مظاهر الشرك، ونهاية فعلية للتأثير الذي بدأه عمرو بن لحي قبل قرون.

الخاتمة: الدرس التاريخي والعقدي

إن قصة عمرو بن لحي وإدخاله عبادة الأصنام إلى جزيرة العرب ليست مجرد حادثة تاريخية، بل هي عِبرة عظيمة في مسار الانحراف العقدي حين يُتبع الناس رموزًا من دون تحقق أو وعي، وحين يُخلط بين التقليد والتدين. وهي أيضاً تذكير دائم بأن التوحيد الخالص لا يحتمل الشوائب، وأن الانزلاق إلى الشرك قد يبدأ بخطوة بسيطة تحت مظلة “الوساطة” أو “التمثيل الرمزي”.

لقد كان الإسلام في حقيقته إعادة إحياء لدين إبراهيم، وإزالة للغشاوة التي صنعها عمرو بن لحي ومن تبعه من صانعي الأصنام، وقد حدد هذا الموقف الصارم مع الشرك ملامح العقيدة الإسلامية إلى يوم الناس هذا.

المراجع:

1. ابن كثير، البداية والنهاية، دار إحياء التراث العربي.

2. البخاري، صحيح البخاري، باب ما ذكر في عمرو بن لحي.